حين وصف هاري ساغز الحضارة الآشورية ب(العَظمةُ إلى أقصاها)، فقد كان يشير بوضوح إلى قمة عظيمة من قمم حضارات وادي الرافدين والشرق الأدنى القديم والعالم القديم كله . فهي الحضارة التي اجتمعت فيها خلاصات عصرها الذي امتد لما يقرب من ألفي سنة متواصلة ، لكنها استطاعت في القرون الثلاثة الأخيرة من تأريخها (العصر الآشوري الحديث) أن ترتفع بأجنحة آشور إلى الأعالي وتطير فوق الشعوب والحضارات مجسدة ، لأول مرة ، في تاريخ الإمبراطوريات نمطاً إدارياً نوعياً محكماً من الإمبراطوريات الذي قلدته كل الإمبراطوريات بعدها .
تنطوي عناصر ومكونات الحضارة الآشورية على كنوز جديدة سيتعرف عليها القارئ وسيندهش من فرادة وجدة بعضها ، تلك التي استقصاها المؤلف ، بحكم خبرته في تحليل وشرح حضارات العالم القديم ، ومعرفته لما تنطوي عليه أسرارها . سيكتشف القارئ أن هناك خمس إمبراطوريات آشورية متتابعة ، وأن نظامها السياسي محكم ومنفرد في هيمنة الملك على المؤسستين الدينية والدنيوية في الحكم ، وسيتعرف إلى خصوصية دينها الذي يختلف كثيراً عن ديانات وادي الرافدين في ابتكاره للملائة الأبكالو وشمولية إلهه آشور بحكم الكون كله ، واقتراب هذا الدين وإلهه من توفير المادة الأساسية للزرادشتية ومساهمته في صناعتها . سيرى القارئ النبيه أن النظام العسكري الآشوري لا نظير له وأن فنون العمارة والنحت والرسم والفنون الصغرى من عاج ومعادن واستخدام الحديد ، والسباكة والطرق المعبدة ، لايمكن أن تكون حضارة قبلها وبعدها من الحضارات القديمة قد وصلت لمستواها ، وانها انفردت بأعظم مكتبات العالم كله آنذاك ، وأن السلم الموسيقى الآشوري هو أصل السلم الموسيقى الإغريقي ، و كذلك نظام البريد السريع والقفل والمفتاح والتدليك العلاجي ومضادات الاكتئاب واستعمال عدسة التلسكوب وهناك الكثير الكثير من عناصر الفرادة والقوة والحيوية والسبق التي تسجل لها .
بالمقابل يتعرض الكتاب بالنقد الواضح والصريح لقسوة وعنف الملوك الآشوريين وجيوشهم ويدينها بشدة ، ويؤشر ضعف نصوص الأدب والفكر والقانون وبعض العلوم ، ويتعرض للأخلاق الآشورية المضطربة وغير المتوازنة والتي كانت سبباً في تغليب عناصر القوة والثروة والمنفعة على غيرها وسببت لها التداعي والسقوط .
كل هذه الأمور وغيرها تجعلنا نتعرف على حضارة فريدة من نوعها تحلق في عظمتها ثم تتهاوى سكرانة بها كأنها نسر جبار يحطم بأجنحته الصخور والجبال والمدن والشعوب ويتحطم معها