سلة التسوق الخاصة بك فارغة الآن.
أصلُ هذا الكتاب أطروحة دكتوراه تقدم بها «آڤي روبن» إلى جامعة هارفارد الأمريكية عن المحاكم النظامية العثمانية، التي يَنظُر إليها المؤرخون عامة -ومؤرخو القانون بصفة خاصة- بوصفها مَعْلَمًا من أهم المعالم التي تُميز دخول الشرق الأوسط عصر الحداثة أواخر القرن التاسع عشر. وفي ثنايا تأريخه للقضاء العثماني، نظر «روبن» في دلالات استحداث الدولة العثمانية للمحاكم النظامية في أواخر حقبة التنظيمات وعهد السلطان عبد الحميد الثاني (1856: 1909م)، وكذلك علاقة المحاكم النظامية بالمحاكم الشرعية، اعتمادًا على “جريدة المحاكم” بوصفها مصدرًا للخطاب القانوني وتطبيق القانون.
دحض المؤلف في ثنايا دراسته الصورة الذهنية السائدة في الدراسات الأكاديمية عن انقسام محاكم الدولة العثمانية إلى محاكم علمانية حديثة ومحاكم شرعية تقليدية قديمة. وكذلك نفى عن المُشَرِّع العثماني السعي إلى علمنة القوانين من خلال إحلال القوانين الوضعية محل القوانين المُستمَدَّة من الشريعة الإسلامية. وفيما يتعلق بالإطار النظري، رفض المؤلف نموذج تأثير الغرب الذي ميَّز دراسات الرعيل الأول من المؤرخين الذين تناولوا التنظيمات العثمانية بالدراسة. كما رفض أيضًا نظرية التحديث. واستعان عوضًا عنهما بنموذج النظام العالمي؛ حيث يؤكد هذا المنظور على الطابع العالمي المتعدد للحداثة. ومن ثَم خلص إلى رفض الهيكل الهرمي التقليدي الذي يضع الغرب على قمة هرم التطور، بينما يضع المجتمعات غير الغربية في مستويات تطورية أدنى.
واستعان «روبن» في معرض تقويضه لهذه الصور الذهنية السائدة عن التغريب عامة، وعن المحاكم النظامية خاصة، بمنهج اجتماعي قانوني ركَّز على تطبيق القانون، وعلى الممارسات القضائية اليومية في المحاكم النظامية. وخلص إلى أنه ينبغي فهم تجربة المحاكم النظامية في سياق النموذج العثماني للتحديث، عوضًا عن النظرة التي تقضي بسعي الدولة العثمانية إلى علمنة القوانين من خلال إحلال القوانين الوضعية محل الشريعة الإسلامية، بوصفها نظامًا قانونيًّا.
إنها رحلة ممتعة، يصطحبنا فيها المؤلف لنرى من خلالها جانبًا من جهود السلطان عبد الحميد الثاني الإصلاحية، وجانبًا من جوانب حكمه ذي النزعة الاستبدادية من خلال ترسيخ مبدأ مركزية الدولة. فكيف استقبل الناس -في القرن التاسع عشر- نظامًا قانونيًّا مستقًى من القانون الفرنسي الوضعي فرضته الدولة عليهم؟ وإلى أي مدى نجحت الدولة في تحقيق مبدأ الفصل بين السلطات؟ وكيف عملت الدولة على تقليص الآثار الجانبية الناتجة عن التعددية القانونية؟ وكيف حاول الناس توظيف هذه التعددية القانونية لخدمة مصالحهم؟ وكيف حاولت الدولة القضاء على مظاهر الفساد في المحاكم؟ يجيب «روبن» عن هذه الأسئلة فضلًا عن غيرها في ثنايا هذه الدراسة الماتعة.