إن التاريخ مرآة الأمة خزين خبراتها على أنحاء شتى من المعارف الإنسانية، وق عني العرب المسلمون بتآليف الكتب الخاصة به، ودعتهم الحاجة إلى التنوع في الأنماط التأليفية المحققة لأغراضهم في العناية بهذا الفن، سواء أكان ذلك في أساليب العرض أم في طبيعة المادة التي احتوتها مصنفاتهم، مما يشير إلى استيعابهم لكثير من غايات العناية بالتاريخ وأهدافه، فعنوا بالتاريخ السياسي وتفننوا في أساليب عرضه على الحوليات والأنساب ووتابع الحكام، وصرفوا عناية متميزة لدراسة أحوال الناس ولاسيما الطبقة المعنية بالعلم، فكان ظهور فن التراجم في الكتابة التاريخية، ودعتهم الحاجة إلى اختراع تنظيمات في أساليب العرض تحقق أهدافهم وتيسر للمستفيد سرعة الاستفادة، منها التنظيم على حروف المعجم، والتنظيم على الأنساب، والتنظيم على الطبقات، ثم البلدان، ثم الوفيات.

وتفننوا في حصر كل فئة منهم بمؤلفات خاصة، مثل ثقات الرواة، أو ضعفائهم، أو رجال كتب مخصوصة، أو أهل العلم في بلد معين، فضلاً عن فئات أهل العلم، من المحدثين، والفقهاء، والأدباء، والشعراء، والأطباء، ونحو ذلك.

وقد تنبه أخونا الفاضل الشيخ شريف بن صالح التشادي إلى هذه الحقيقة، فقام بعمل رائد سعى فيه إلى استخراج دفائن تاريخية قد لا يجدها الباحث في كتب التاريخ العامة، مندثرة بين ثنايا مؤلفات واحد من كبار المحدثين هو أبو القاسم الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة المشهورة: المعجم الكبير، والمعجم الأوسط، والمعجم الصغير (260-360هـ/873-971م)، فكان أن وقف على ثروة تاريخية متميزة نقلها الطبراني من مصنفات لم تصل إلينا، أو انفراد بأخبار لم تتناولها كتب التاريخ العامة، وسار في كل ذلك على خطة محمودة تستند في جوهرها على المورد الذي اقتبس منه الطبراني مادته، والتعريف به، وبيان الطرق التي توصل بها الطبراني إلى ذلك المورد ودراستها على وفق منهج علمي قائم على أصول علم الحديث، لكنه تنبه إلى مسألة في الأهمية بمكان طالما نبهت إليها في محاضراتي وكتاباتي، وهو التفريق بين مناهج المحدثين وبين أحكامهم، فنحن نأخذ بمناهج المحدثين في دراستنا التاريخية، لكننا في الوقت نفسه لا نتبع أحكامهم، لأنها خاصة بمدى معرفتهم وضبطهم للحديث، أي: اختصاصهم بهذا العلم، ومن ثم فإن رواة التاريخ والأخبار المختصون بهذا الشأن يتعين النظر إليهم استناداً إلى اختصاصاتهم وضَرَبَ لذلك أمثلة تبين صحة ما ذهب إليه.

لقد أجاد الشيخ شريف بن صالح التشادي في عمله هذا، فقدم ذخيرة مضافة غير معروفة عند المؤرخين المحدثين، وهو باكورة لأعمال أخرى، نأمل أن تتبع، لتعم فوائدها وترتجي عوائدها إن شاء الله تعالى.

وحُق لمن يُتقن عمله أن ينوه بفضله وجهده، فإن التنويه بما بذل من جهد ولقي من نصب، أقل ما يُكافأ به على إحسانه العمل، وأدى له لتجديد الأمل بإعادة الإفادة، مما يؤمل من مثله، وهو لما يزل في قوة الشباب وحرارته.